تنشر في شبكات التواصل الاجتماعي يوميا الكثير من الصور التي تعكس الحياة في فلسطين في فترة ما قبل النكبة عام 1948 وبكلمات أخرى، تلك الفترة التي تم بناءها ثقافيا وأكاديميا ضمن توصيف "الفردوس المفقود"، هكذا بعد نشر تلك الصور يتم مشاركتها عبر الآلاف من الفلسطينيين الذين يحنون للفردوس المفقود الذي لم ولن يعيشوه على ما يبدو وخاصة أولئك من أبناء الجيل الثالث والرابع للنكبة. يمكن تقسيم هواة الفردوس المفقود إلى ثلاث فئات رئيسية :
1- أولئك الذين ذوتوا بعمق الخطاب الإسرائيلي التاريخي والمعاصر والذي روج لأكذوبة أرض بلا شعب وعند نشرهم لهذه الصور فإنهم ينطلقون من شبه تصديقهم الضمني للأكذوبة ولسان حالهم يقول: هل ترون يتضح أن ثمة مجتمع عربي فعال ونشط وحي كان في فلسطين وكانت هنالك دعائم لكيان مستقل دائم – مرة أخرى من منطلق عدم التصديق المبطن والاكتشاف المذهل بحق ، بأنه كانت هنالك نساء برجوازيات أنيقات تجلسن في المسارح بانتظار عروض راقية.
2- الفئة الثانية هي تلك التي تفتتن بالوثائق القديمة المصور منها خاصة كملصقات الحفلات وتذاكر القطارات والفواتير المختلفة مهما كان مصدرها وكم بالحري إن كانت توثق لمكان كانت تدب فيه الحياة شبه المستقلة ثم توقف ذلك ضمن ما يشبه الكارثة الطبيعية أو غير الطبيعية.
3- الفئة الثالثة هي الأخطر وهي تلك التي تشكل للمتلقين مرجعية فكرية وأكاديمية والأهم من ذلك...علمية. تلك الفئة لا تصور فلسطين ما قبل النكبة عبر مؤلفاتها كفردوس أوتوبي وحسب بل تساهم في جعل "أسطورة الفردوس المفقود" بمثابة بقرة مقدسة ضمن الإجماع الوطني والمسلمات الوطنية يُمنع النبش فيها أو تفكيكها.
ضمن المحاولات الفردية لإثارة الشغب في وجه أسطورة الفردوس المفقود حاول المخرج الفلسطيني المقيم في بلجيكا ميشيل خليفي من خلال فيلمه الجدلي والفريد "عرس الجليل" مجاكرة هذا الطرح الأحادي عبر تقديم شخصية الجد الذي كان طوال الشريط وعلى مدار الأحداث يسرد سيرته من خلال معاصرته للاحتلال العثماني لفلسطين حيث تقترح شخصية الجد سردية تعيسة تحمل قدرا كبيرا من الشفقة على الذات حول تعاسة وبؤس وفقر الفلاح الفلسطيني في وجه أحد المحتلين وحول تعامل التركي مع الفلسطيني المحتل كمجرد "عربي" لا هوية له وذلك قبل تسليمه لمحتل آخر او ما اصطلح على تسميته منتدب آخر ويناقض ذلك بشكل جذري خطاب الفردوس المفقود الذي يصور مجتمعات متناغمة وسعيدة تحصد القمح وتقطف الزيتون بابتسامة عريضة بينما النساء والرجال في حالة مساواة لا قرين لها، وحتى المواشي والخيول تكاد تنفجر من السعادة، خاصة أن المياه وفيرة والجداول تحيط بكل شيء ...أما في المدن فالنساء المتأنقات على الطراز الأوروبي يخرجن من فيلم ذهب مع الريخ ويدخلن إلى عرض أم كلثوم أو نور الهدى في يافا أو حيفا ..بينما تندلق شلالات الويسكي والعرق بعدها كالطوفان وحتى الصباخ على صالونات المجتمع المخملي العامرة..
أنتج فيلم "عرس الجليل" بين عامي 1986-1987 وفي نهاية عام 1987 اندلعت الإنتفاضة الأولى التي أعادت إنتاج الهوية الفلسطينية للإيجاب والسلب حيث تم معها قمع أي محاولة نقاش أو نبش ذاكرة الفردوس المفقود!
قد يسأل سائل وبحق ما مشكلتك مع ذاكرة الفردوس المفقود؟ المشكلة هي مع ذاكرة ما بعد ذاكرة الفردوس المفقود أو "Postmemory" والتي تُزرع في أذهان الأجيال الثالثة والرابعة وما إلى ذلك..أنها حادة جدا ونافذة وخطيرة..أخطر من الذاكرة المباشرة المستمدة من أحداث واقعية فمن يملك ذاكرة مباشرة تظل خسارته ملموسة ويمكن قياس حجمها بينما يقع من هو أسير لذاكرة الفردوس المفقود اليوتوبي\\ الكامل \\ المتجانس في بئر لا متناهية من الفقدان والخسارة، كما يقع هؤلاء ضحايا سرديات سعيدة غير متسلسلة ومليئة بالفجوات المعرفية يملؤوها هم بمعرفتهم – عادة بمزيد من الخيالات والأوهام والفنتازيا. تبقي ذاكرة الفردوس المفقود المرء مشلولا وعاجزا ، يعيش في حاضر مشروط باسترجاع الماضي الفردوسي وإعادته تماما كما كان، وبما أنه لا يمكن ملامسة الفردوس المفقود واستيعاب مبناه فيتحول الحاضر إلى جحيم ناقص مشبع بالملانكوليا والفقدان اللا-نهائي وخاصة عندما يسعى أصحاب المرجعية "الموثوقة" تثبيت حبل الفردوس المفقود حول عنقنا أكثر وأكثر بدل حلحلته ..وتفكيكه حرفيا كي نحاول معايشة الحاضر كواقع وليس ككابوس من الخسارة التي لا يمكن استيعابها، فذاكرة ما بعد الذاكرة أو "Postmemory" تختلق البدع في الفراغات التي لا يمكن اكتشافها، تتخيل في الفراغات التي يمكن تذكرها، وتقيم الحداد على الفقدان الذي لا يمكن تعديله.
فعندما ننظر إلى ملصق لحفل لفريد الأطرش أو أم كلثوم في يافا وحيفا لماذا لا نحاول تفكيكه وسؤال أنفسنا مثلا كجزء من محاولة الانعتاق من قبو الفردوس المفقود المعتم : لماذا أسم القاعة في حيفا هو "عين دور" أي بالعبرية (أين الطهرانية الفلسطينية) ...لماذا لم يشتهر وقتها مغنون فلسطينيون واقتصر الأمر على المصريين والسوريين واللبنانيين؟ لماذا لم تصنع أفلام فلسطينية وقتها؟ لماذا لم يبن الفلسطينيون مؤسسات تجهز لإستقلال وطني كما فعل اليهود الذين شيدو الجامعة العبرية والتخنيون وشركة الكهرباء وغيرها، وهل استطاع الفلاحون الفلسطينيون حضور هذه الحفلات أم أنها اقتصرت على أبناء الذوات والإقطاعيين ...ليس القصد من التفكيك هو نفي وجود حياة ثقافية واجتماعية عربية في فلسطين قبل النكبة، بل الانعتاق من أسطورة الفردوس المفقود كي يصبح بالإمكان المضي قدما.. وتجاوز خطاب "محاولة" أحياء أمجاد يافا التي ستبوء حتما بالفشل في حال لم نحاول تحليل تلك "الأمجاد" إلى عناصرها!